اكتئاب ما بعد الولادة.. القاتل الصامت الذي أفقد 20% من النساء الأمومة لذة الأمومة ونغص حياتهن
الصحة العالمية: 20% من أمهات الدول النامية يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة
الكلية الملكية للصحة النفسية: نسبة قليلة من الأمهات يفكرن فى الموت أو الانتحار أو إيذاء أطفالهن
دراسة: نسبة المصابات باكتئاب حاد ومستمر أقل من 1%
هاشم بحري: الرجال أصبحوا عُرضة لاكتئاب ما بعد الولادة
مشاعر مختطلة بين لا مبالاة وحزن يصحبهما رغبة في البُكاء الطويل والإحباط، وعدم الشعور بمحبة تجاه فذات أكبداهن، بخلاف ما توقعت كل أم منهن؛ لطالما تاقت إلى لقياهم أرواحهن، ولكن أتت رياح اكتئاب ما بعد الولادة بم لم تشته سُفن أمومتهن، وسيطرت الأفكار الانتحارية والخزي وانعدام القيمة عليهن، بل تجد من حاولت التخلص من طفلها، وفي المُقابل لم يجدن هولاء المغلوبات على أمرهن تقدير للحالة السيئة التي باتت تنهش في حيواتهن، ورغم أن الدراسات والأبحاث تكشف حجم المعاناة التي يعشنها، إلا أن المجتمع لم يعترف بها ويكيل إليهن الاتهامات بقلة الدين والبُعد عن الله، أو التدلل لا أكثر.
هلاوس وأشباح
لم تكن تعلم إيمان عمر الشابة العشرينية، أنه سيأتي عليها اليوم الذي يتحول فيه حلمها بالأمومة إلى مأساة حقيقية تعيشها، وبدلًا من أن تضم ابنتها إلى حضنها لتشعر بالفرحة والأمان، ستطاردها هلاوس بأن ابنتها الرضيعة ابنة بضع الأيام، ستتحول إلى شبح سيطاردها بينما هي تقف في المطبخ أو حين انشغالها في بعض الأعمال المنزلية.
مأساة إيمان لم تنتهِ عند هذا الحد، بل تطورت إلى أنها قررت أن تهرب من المنزل في حالة طاردتها الأفكار السلبية تجاه طفلتها وزوجها، الذي أبلغته أنه ما إن تأتيها الوساوس ستغادر البيت وتترك رضيعتها، حتى لا تؤذيها، خصوصًا وأنها كلما أغمضت عينيها تخيلت أنها تنتقم منها بسبب الرعب الذي خيم على نفسها، ومع ذلك لم يكن الشعور بالذنب بمنأى عن الأم الذي لم يترك اكتئاب ما بعد الولادة لحظة إلا وأكل من روحها فيها، للدرجة التي جعلتها تخبط رأسها في الحائط؛ لاعتقادها أنها زوجة وأم شريرة وسيئة، ولم يكن أمامها سوى مهاتفة زوجها أثناء عمله وكأنه ملازها الأوحد تبكي له، علها تزيح الحِمل الثقيل على صدرها.
ما هو اكتئاب ما بعد الولادة؟
واكتئاب ما بعد الولادة، حالة تصيب امرأة من بين كل عشرة نساء بعد ولاة الطفل، أحيانًا يكون هناك سبب واضح لذلك، وفي الغالب لا توجد أيّة أسباب له، بشكل خاص، وتشعر الأم بالذنب بسبب هذا الإحساس، أو قد تشعر حتى بأنها غير قادرة على التعاطي مع كونها أُمًّا، قد يستمر هذا الإحساس طوال أسابيع أو عدّة أشهر أو أكثر إن لم تتم معالجته، وفقًا للكلية الملكية للصحة النفسية ببريطانيا.
ويعتقد البعض أن حالات الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، تظهر فقط خلال شهر من الولادة؛ إلا أنها يمكن أن تظهر خلال الستة أشهر اللاحقة للولادة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
وتبلغ نسبة المصابات باكتئاب حاد ومستمر أقل من 1%، بل إن استمرار أعراض اكتئاب ما بعد الولادة بعد مرور شهرين أو 8 أشهر من الولادة بصرف النظر عن حدتها يزيد من احتمال استمرارها لحين تقييمها أكثر من 11 عامًا، حسب دراسة منشورة في دورية «غاما» للطب النفسي، في التسعينيات، لتقييم أعراض الاكتئاب،.أن
دعم وعلاج نفسي
ويمكن التغلب على اكتئاب ما بعد الولادة المعتدل، بمجرد التحدث مع شخص متعاطف ومتفاهم، ولا يوجه الانتقادات، ربما من العائلة والأصدقاء، أو الطبيب العام، بخلاف الاكتئاب الأكثر حدّة، الذي يستلزم مساعدة من الطبيب النفسي.
ولذلك لم تترك أسرة نسرين صبحي ابنة الـ28 عامًا، لأفكار اكتئاب ما بعد الولادة ينهش روحها، رغم أنها قررت زيارة الطبيب الذي شَخَّص حالتها ووصف لها أدوية لتساعدها على التعافي، لا سيما وأن وصل بها الحال إلى عدم احتمال طفلها وكره ملامح وجهه حتى، الذي سلبها عمرها وشبابها، وباتت تائه في الحياة ولم تجد من يدلها على الطريق الصحيح، رغم أنها انتقلت للعيش مع أهلها برغبتهم خوفًا من أن تؤذي رضيعها، وعلى مدار أكثر من شهر منذ ولادتها، لم تستطع أن تحمل طفلها 5 دقائق متواصلة، حتى أنها لم ترضعه رضعة كاملة، وبات الرضاعة الصناعية المنقذ لها ولطفلها، الذي رفضت عائلتها أن تتناول أمه الأدوية النفسية التي وصفها لها الطبيب النفسي، بحجة أنها ستمنعها عن إرضاع فلذة كبدها.
إحصائيات وأرقام
10% من النساء حول العالم يعانين من اكتئاب أثناء فترة الحمل، وتصل النسبة إلى 13% بعد الولادة، والتي ترتفع في الدول النامية إلى 16% أثناء الحمل، وتصل إلى 20% بعد الولادة، وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية.
والنساء اللواتي تستمر معاناتهن من اكتئاب ما بعد الولادة لعدة شهور، أكثر عُرضةً لخطر الإصابة باكتئاب يلازمهن لسنوات طوال، بل يؤثر ذلك أيضًا على أبنائهن؛ لدرجة زيادة احتمالات إصابتهن باضطرابات سلوكية، لا سيما وأنه عندما يكون الاكتئاب مستمرًا وحادًا فإن خطر الآثار السلبية على تطور الأطفال يتزايد، بل قد لا تؤثر نوبات الاكتئاب الأقصر مدة والأقل حدة على تطور الطفل، وفقًا لدراسة حول اكتئاب ما بعد الولادة، شارك في إعدادها، أستاذ علم نفس الأطفال والمراهقين بجامعة أكسفورد، ألان ستاين، فبراير 2018.
أعراض اكتئاب ما بعد الولادة
ويخلط الكثيرون بين الاضطرابات النفسية التي تحدث بعد الولادة وبين أعراض اكتئاب ما بعد الولادة، والتي تختلف حسب حِدة الحالة، ورغم تنوعها إلا أن الشعور بالكآبة والتعاسة والبؤس في معظم الأوقات، هو المسيطر في كلتا الحالتين، وسرعة الانفعال كأن يُثير أعصاب المريضة الأطفال الآخرون وطفلها أيضًا وتكون سريعة الغضب مع زوجها، والشعور بالإرهاق والتعب، بالإضافة إلى الشعور بالأرق رغم حاجتها إلى النوم حتى عندما يكون الطفل نائمًا، عدم الشعور بالجوع، فالأمهات المصابات باكتئاب ما بعد الولادة لا يميلن إلى تناول الطعام، ويسيطر عليهن الشعور بالتوتر والقلق، والذنب وعدم الارتياح بشأن ازدياد وزنهن، في حالة تناولن الطعام ويكون ذلك بدافع التوتر.
كما تشعر الأم بعدم القدرة على الاستمتاع بشيء، كما تفقد مريضة اكتئاب ما بعد الولادة الرغبة والحماس للجنس، لوم النفس وتحميلها مسؤولية المرض أو أنها غير قادرة على مساعدة أسرتها، كما تشعر بالخوف من البقاء بمفردها مع الطفل، والشعور بالقلق من أنه قد يصرخ أو يختنق أو يصاب بأذى على نحو ما، القلق من بُكاء الطفل أو عدم نموه بشكل طبيعي، والتوتر والقلق من تنفسه بصوت مسموع، ما أنها تقلق من أنها تتسبب بأذى له، وتجد نفسها بحاجة إلى طمأنة من زوجها أو طبيبها أو حتى أسرتها، وفقًا لتقرير نشرته الكلية الملكية للصحة النفسية ببريطانيا.
وتستفحل أعراض الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة إلى أن تصل إلى التفكير في إيذاء النفس أو الطفل والتفكير المتكرر في الموت الانتحار، ولكن تمثل تلك الأعراض نسبة قليلة.
إيمان ضعيف
«الأفكار الانتحارية والوساوس من الشيطان، بينما الطمأنينة، من الله»، بهذه الكلمات بدأ، وكيل وزارة الأوقاف الأسبق، الدكتور سالم عبدالجليل، حديثه مع «النبأ الوطني»، معلقًا على الأفكار الانتحارية والوساوس وحالة الضيق التي تصيب مريضة اكتئاب ما بعد الولادة.
واعتبر «عبدالجليل»، أن اكتئاب ما بعد الولادة نوع من أنواع الابتلاء من الله، والمريضة مطالبة بالرضا والصبر، وعليه من تراودها تلك الأفكار فهي بالفعل ضعيفة الإيمان وبعيدة عن الله، حتى وإن كانت تصلي وتُقيم الليل وتخصص وردًا من الأذكار يوميًا، فلا بد من استحضار القلب وصحوته عند الذكر، «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، يعني اللي إيمانها قوي ربنا سيرزقها الطمأنينة، ولكن الشيطان بيتمكن من العبد البعيد عن الله، والذكر مش بس باللسان، لازم القلب يكون حاضر.
واختتم وكيل وزارة الأوقاف الأسبق، حديثه مع «النبأ الوطني»، بالتأكيد على أن الشيطان يسيطر على العبد ضعيف الإيمان ويوقعه فريسة لمخاوفه، مُوضحًا أن هناك فرقا بين العبادة والعقيدة، فالصلوات والأذكار وقيام الليل، عبادة، بينما الثقة بالله التي تبث الطمأنينة والرضا في القلوب عقيدة.
لا علاقة للدين
«مسألة الحكم على مريضة اكتئاب ما بعد الولادة، ليست من اختصاص الدين أو الشرع، بضعف إيمانها، بحجة الأفكار الانتحارية والضيق، ولكن الأطباء الفيّصل فيها»، هكذا بدأ مستشار وزير الأوقاف، الدكتور صبري عبادة، حديثه مع «النبأ الوطني».
«لا يجب أن نوصم الأمهات المصابات أو نحكم عليهن، بأنهن ضعيفات الإيمان أو بعيدات عن الله؛ فالمسألة ليست بهذه السهولة، وفي حالة أكد الأطباء أن الأم المصابة غير مسؤولة عن أفعالها، فالأم هنا مريضة لا حرج عليها، ولا يجوز أبدًا اعتبارها مذنبة».
واختتم «عبادة»، حديثه مع «النبأ الوطني»، مؤكدًا أن الإنسان يكون مسؤولا عن انتحاره أو أذية الآخرين، في حالة كان مسؤولا عن أفعاله، مُضيفًا أنه من الطبيعي لا يجوز أن يدعو الإنسان على نفسه بالموت كما لا يجوز شرعًا الانتحار.
أمر غير منطقي
ويرى استشاري الطب النفسي، الدكتور جمال فرويز، أن اكتئاب ما بعد الولادة هو نوع من أنواع الاكتئاب الذي تتعرض له بعض السيدات وأحيانا الرجال نتيجة التغيرات الهرمونية، مشيرًا إلى أن 95% من الحالات تتعرض لاكتئاب ما بعد الولادة، منهم 98% من الحالات لا تشعر بها.
ولفت إلى أن أعراض الاكتئاب تبدأ من أول يومين من تاريخ الولادة وتستمر حتى الشهر السادس، ويختفي تدريجيًا دون الحاجة لعلاج وتناول أدوية.
وأضاف في تصريح لـ«النبأ» أن الـ2% المتبقين منهم 1.9% نسميها الحالات المتوسطة والأقل من العالية، وهذه تحتاج لأدوية، ويكون لديها شعور بالاكتئابية، وهو ما تتلخص أعراضه في خوف شديد على الطفل، بالإضافة الاضطرابات فى النوم والأكل، وتكون هناك عصبية على أتفه الأسباب، وخوف بشع على الطفل.
وتابع «فرويز»: «أما النوع الثالث والذي يشكل 0.1%، وهو ما يسمى بالاكتئاب العنيف والذي يترافق معه هلاوس سمعية وبصرية وحسية واضطرابات شديدة، وصراخ قد يصل إلى أن يدفع بالأم لقتل نفسها أو طفلها».
وأشار استشاري الطب النفسي، إلى أن اكتئاب الرجل فيما بعد الولادة يكون مرتبطًا بتعلق الرجل بطفله، وخوفه الشديد عليه، أو تركه بالذهاب للعمل.
وحذر «فرويز»، من عدم العلاج، مضيفا أن تجاهل علاج تلك الحالات قد يصل لمراحل خطيرة، مشددا على ضرورة تقديم الدعم النفسي للمرأة في حالات الاكتئاب.
وقال، إن قصة قتل الأم لأطفالها وربطه باكتئاب ما بعد الولادة غير منطقي، لأن هذا النوع من الاكتئاب الخاص بما بعد الولادة، يدفع الأم لقتل نفسها أو طفلها، وليس أطفالها الثلاثة، وأما إذا كانت تعانى من الاكتئاب الوجداني، وهو ما يظهره الخطاب لأنها تريد أن تدخلهم الجنة، فإنه لا بد أن يترافق معه هلاوس سمعية، متسائلًا: «لماذا لم تلجأ لقتل نفسها أيضًا؟».
وأشار إلى أن هناك كثيرا من الجرائم التى وقعت كانت بسبب حالات نفسية كالانفصام، أو هلاوس سمعية آمرة كأن تأمر الشخص بعمل سلوك ما، أو اكتئاب وجداني في حالات متأخرة جدًا.
اكتئاب عقلي حاد
بدوره، قال الدكتور هاشم بحري، أستاذ الطب بجامعة الأزهر، إنه في الماضي كان يحدث لـ1% من الولادات اكتئاب، وبعد تطور الأبحاث والاكتشافات العلمية تفاجأنا بأنه يحدث لـ10% من السيدات.
وأضاف أستاذ الطب النفسي، أن المرأة بعد الولادة تشعر بموجة اكتئاب غامرة، تكون مرتبطة بالنوع الفكرى، وقد تتحول إلى عقلى إذا لم تجد المرأة مساندة من الأهل والزوج، مضيفا أن هذا النوع من الاكتئاب العقلي، لا يملك فيه الشخص أي بصيرة، ولا يكون لديه وعي بما يفعل، وتظل هناك فكرة مسيطرة عليه ومرتبطة بمشاعره، وأنه السبب فيما يحدث من كوارث، قد يضطر معها لقتل طفله.