الدبور الأسود وسنينُه!
في المرحلة الثانوية، كانت لنا مواقفُ طريفة لا تزال محفورةً في الذاكرة، نجترُها بين الحين والحين، ونحن نقلبُ صفحات ذلك الزمن، الذي استحق عن جدارة أن يُوصف بالزمن الجميل.
كان صديقي (هـاني)، ضعيفًا في مادة الرياضيات، فلا يُحسن ضربًا ولا قسمة، ولا يُجيد جمعا ولا طرحا.
فكان قيامُه بنقل جبل من مكانه حصاة حصاة، أو نزح بئر ممتلئة عن آخرها دلوا دلوا أهونَ عليه من حلِّ مسألة رياضية، وذلك رغم تفوقه في المواد الأدبية، إذ كان يحفظُ كتب التاريخ والجغرافيا من الجلدة للجلدة؛ مما جعله خبيرًا في معرفة خصائص البلدان، وما تمتاز به كل بلد عن أخري في مجال الزراعة والصناعة والتجارة، بالإضافة إلى ذاكرته الحديدية في معرفة تواريخ الوقائع والأحداث، لدرجة أنه ربما ينسي اسمه، لكن من رابع المستحيلات أن يفلت من ذهنه تاريخُ حدث، أو نتائجُ موقعة، أو بنودُ معاهدة.
كان لخوف ذلك الزميل الهيستيري من مادة الرياضيات - والذي يُسبب له ارتباكا، وتلعثما في النطق كلما طُولب بحل مسألة حتى ولو كانت سهلة - سببٌ رئيس وهو أن مدرسها كان معروفًا بغلظة القلب وحِدة المزاج، فضلًا عن افتقاره للأساليب التربوية، التي كانت في واد، وسلوكيات ذلك المدرس في واد آخر، أو كان معها: ( خالف تُعرف )
وزاد طينَ زميلنا بلة أن كانت تربط أخاه الأكبر بذلك المدرس علاقةُ زمالة، فأولاه رعاية أربكته، كما يرتبك الفأر عندما تتسلط عليه عينا قط!
حرص زميلُنا -عدو الرياضيات- في حصة ذلك المدرس على أن يلزم الصمت التام، ليس بغرض التركيز والفهم، ولكن ليتفادى حدة لسانه، وطول يده، وبطش عصاه العمياء، التي كانت تهوي على جَسد المُعَاقَب دون أن تعرف أين تحطُ رحالها!
كان صمتُ زميلي، وهزُ رأسه من أسفل لأعلى إيهامًا بالفهم، هما وسيلته للخلاص من التوبيخ وربما الضرب، إن رآه المدرسُ مرة شاردَ اللب.
حرص زميلُنا في حصة الرياضيات على أن يرفع شعار: ( لا أري– لا أسمع– لا أتكلم )، فلا يُنصت إلا للدرس، ولا يلتفت إلا لإشارات المدرس، وهو في ذلك كله، ينتظر انتهاء الحصة بفارغ الصبر، كسجين يتحين فتح باب زنزانته لينعم بالحرية، ويجوب أرض الله الواسعة طولًا وعرضًا.
بشقاوة الأطفال، وخُبث الغلمان، قررتُ أن أخرج زميلنا عن صمته المُصطَنع، وليكن ما يكون، وساعدني على إنفاذ ذلك العزم الأكيد مفارقةٌ غريبة مفادها أن دبورًا أسود اعتاد في حصة الرياضيات بالذات أن يدخل علينا من إحدي نوافذ الفصل التي تطل على حقول البرسيم الواسعة، وبفمه ورقة برسيم خضراء يهرع بها إلى أحد الثقوب بـ( تابلوه ) خشبي مُثبت بالحائط الأمامي على جانب السبورة الأيسر، لتُعلق به قائمة بأسماء طلاب الفصل.
كان هذا الدبور مُغرَمًا بمادة الرياضيات خاصة، وبهذا المدرس بالذات -ربما لوجود كيميا بينهما- أو لتماثُل(سحنة) وجه هذا المدرس مع لون الدبور، وهو ما أغراه دائما بالدخول في حصة الرياضيات سواء كانت الأولي أو الأخيرة، ومع هذا المدرس، الذي بمجرد دخوله يحل علينا الدبور ضيفا.
ألفتُ ذلك الأمر - الذي صار عادة لا تتغير - فأسررتُ لهاني (مُصطنِع التركيز) حكاية هذا الدبور أثناء انشغال المدرس بكتابة مسألة على السبورة، وقبل أن أُنهي كلامي، لم يُكذب الدبور خبرًا، ودخل من النافدة، بورقة البرسيم مُتوجهًا نحو الثقب، فانفجر هاني ضاحكًا بصوتٍ كصوت قربة انحل وكاؤها، فصادفت قهقهتُه التفات المدرس نحونا بعد فراغه مما يكتب، فكانت له مع هاني قصة، تحدث بها الغلمان، وأخبر بها الحاضرُ الغائب، تلك القصة التي جعلت هاني يلعن الدبور الأسود وسنينه، ويجعل أذنيه من بعدها إحداهما من طين، والأخري من عجين، ولا ينشغل بغير الحصة، حتي ولو دخلت علينا أسرابٌ من الدبابير!