حرامي العسل!
فيٍ قريةٍ اشتهرتْ بحُب العمل، والسعي وراء لقمة العيش، لا فرقَ في ذلك بين رجلٍ وامرأة، طفلٍ أو فتاة، صغير أو كبير، وجد الثلاثةُ أنفسَهم من طينة غيرِ طينة هؤلاء البشر، الذين عَرفوا كيف يأتون بالقرش من (حَنك السبع)، فرثوا لحالهم، وقالوا لا بد لنا من حرفة تكونُ مصدرًا للدخل من ناحية، وهواية نُضيع فيها وقت الفراغ من ناحية أخرى.
بعدَ تقليبٍ في دفاتر الذاكرة، وقدحٍ لزناد الفكر، همستُ في أُذن صديقَيّ ( إيهاب، وجمال) باعتبارهما ضلعي المثلث، الذي كنتُ ضلعه الثالث، إذ كنا لا نفترقُ إلا عند النوم، وربما بتنا معا في بيت أحدنا: الحل في خليةَ نحلٍ نتكسب من ورائها من جهة، ومن جهة ثانية نأكل عسلًا أبيض، وتكونُ إلي جانبِ هذا وذاك هوايةً نتعرفُ من خلالها على عالم النحل المعروفِ بالعمل والنظام، وتكاملِ الأدوار في سيمفونية وتناغُم دون خللٍ أو اضطراب، بدءًا من الملكة التي ما سمعنا يومًا أنها ركنت لصولجان المُلك، واستغلت نفوذها، فجلستْ مُتكئةً علي كُرسي الحُكم يحُوطها الخدمُ والحشمُ، بمراوح من ريش النعام، يذبون بها عن وجهها الذُباب والهوام، ويسوقون إليها الهواء الرطب، بل تجدها مع أفرادِ الخلية يدا بيد، جِدًا وتعبا، لسانُ حالها: لا تحسبن المجد تمرًا أنت آكلُه... لن تبلغَ المجدَ حتي تلعق الصبرا.
مرورًا بنحلِ الشغالة الذي يعملُ على مدار الساعة على تنظيف الخلية، وتنظيمها وحراستها، وإنتاج العسل وخلافه، إضافة إلى الذكور ودورهم الفذّ في تلقيحِ الملكة وتخصيبها.
وافق الصديقان على الاقتراح، وأسرع كلٌ منا يبحثُ في (حَصّالة) نقودِه، حتى جمعنا بعد لأي ثمنَ خلية النحل، وكانت عبارة عن صندوقٍ مُستطيل من الخشب له غطاءٌ من أعلي، يُفتح عن دخول براويز النحل، وخروجها، وعند تغذية الخلية بمحلول سكري، وفتحةٍ جانبية لدخول النحل وخروجه، بالإضافة إلي احتوائها علي أعدادٍ غفيرة من النحل من بينها (الملكة)، التي التفت حولها جحافلُ من نحل الشغالة، تحوم حولها ولها طنينٌ كصيحات تحذير تُهدد بلسع كل من تُحدثه نفسه بالاقتراب من الخلية، إضافة إلي براويز خشبية مُستطيلة، شيدت عليها الشغالةُ بيوتها بنظام هندسي غريب، بدت من خلاله طاقات العسل اللامعة بحارًا لُجية، واشترينا كذلك قناعَ وجه وقفازًا نحتمي بهما من لسعات النحل.
اخترنا لوضع الخلية بيت إيهاب ذا الطوابق الخمسة، الذي وقف شامخا كفنارٍ تجاورُه بيوتٌ من الطوب اللَّبن لم يتجاوز ارتفاعها دورا أو دورين، تعلوها أقراصٌ جافة من روث المواشي، والتي تُستخدم كوقود لأفران الخبز.
كان بيتُ إيهاب يطلُ من الخلف على واحة غناء من أشجار البرتقال، ومزارع القمح والبرسيم، التي يُحيطها سياجٌ من أشجار الكافور، وهو ما جعل تلك المزارع محميات طبيعية، وضمن للنحل غذاءه أني أراد.
شرعنا معًا نخوضُ غمار ذلك العالم الجديد، ونمشي في سككه ودروبه على غير هدي كمن يطأ أرضا ليست له بها دراية، فضل طريقه، وتعثرت خطواته.
نعم - تعثرت خطواته - فقد اعتاد كلٌ منا أن يلبسَ قناع الوجه، وقفاز اليدين، ويفتح الخلية بحُجة تغذية النحل، وحل مشكلاته؛ ظانين أننا نُحسنُ صنعًا، فأسأنا دون أن ندري، إذ شعر النحلُ بعدم الأمان بعدما صارت حياتُه كتابًا مَفتوحًا لكلِّ منْ هبَّ ودب، فتعكر صفو الملكة وساء مِزاجها؛ مما أثر في إنتاجها من النحل، وبدلًا من أن يفقس بيضُها يرقات الشغالة التي تعمل وتنتج، فقس أعددا لا حصر لها من الذكور.
ورغم أن الذكر في كل العوالم الحية هو مناطُ الفخر، ورمزُ العزة، وأيقونة العمل والجد، إلا أنه في عالم النحل دليلٌ علي (التمليَّة) والكسل، إذ يبقي الذكرُ بالخلية (آكلا شاربًا نائمًا) ينتظرُ دوره الوحيد وهو تلقيحُ الملكة، مما يجعلُه عبئا غيرَ مُحتمَل، يتمني الجميعُ موته والخلاصَ منه، وهو ما يدفعُ الملكة إلى قتله بمجرد أن يذوق عسيلتها، وتذوق عسيلته.
ولنقطعَ الشك باليقين، ونعرف كم عدد الذكور بالخلية، أجرينا اختبارًا يعتمد علي نفض براويز النحل في الهواء؛ لنرى عدد ما يسقط علي الأرض فيكون هو الذكور، والتي تسقط لثقل وزنها، مُقارنة بما يطير وهو الشغالات، والفاجعة أننا فوجئنا بسقوط معظم -إن لم يكن كل- النحل فأيقنا، وقد تلمظت شفاهنا، أن الخلية احتلتها الذكورُ، فآلت للخراب.
يأس إيهاب وجمال من التجربة بعدما دفعا فيها (تحويشة) العمر بلا جدوي، ولكني صممتُ أن أخوض غمارها من جديد، ولا أستسلم للفشل شريطة أن أكون مسلحًا بمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن عالم النحل؛ لأستطيع التعامل معه مُتجنبا فخاخ الزلل، ومزالق الشطط، فاستعرتُ من مكتبة المدرسة كتابًا عن تربية النحل وأنواعه، وكيفية التعامل معه، عرفتُ منه أن أفضلَ أنواع النحل هو النحل الإيطالي؛ لصغر حجم النحلة وقلة غذائها، وكثرة إنتاجها للعسل، بالإضافة إلى نشاطها، وكان من الغريب والمؤسف، والذي دفنتُ بسببه رأسي في (عبي) من شدة الضحك، أنني وجدتُ - ولا أدري - أهي عنصريةٌ من مؤلف الكتاب ضد (الجنس) المصري أم أنها الحقيقةُ المُرة أن أسوأ أنواعه هو النحل المصري؛ وذلك لكبرِ حجم النحلة وكثرة غذائها، فضلًا عن كسل الشغالة وبلادتها، إضافة وهو ثالثة الأثافي أنه - أي النحل المصري - (حرامي)، يركنُ إلي الدَّعة والكسل، ويعتمد في غذائه على حملات السطو المُسلح على إنتاج الخلايا الأخرى.