لعلَّكم تتقون.. وقفاتٌ تربوية!
هنيئًا لجموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بحلول شهر رمضان المُعظَّم، الذي ما انفك -علي مرِّ العصور- أن يأذنَ بالرحيل بمجرد أن يحل!.
ولمَّا كان حالُه كذلك، وجدنا العارفين لمقداره من الصالحين -وطبعا الصالحات- تشرئب إليه أعناقهم قادمًا، وتُنكس له رؤوسهم مودعا، إذ دأبوا كما أخبرت السنةُ النبوية أن ينتظروه ستةَ أشهر، ويودعوه ستةَ أشهر، ومن ثم تصيرُ السنةُ كلُّها رمضان.
ها هو ذا الشهر قد حلَّ بنفحاته ورحماته، وفيوضاته السنية، ودروسه النافعة، التى من أهمها التقوى، تلك القيمةُ، التي تجعلُ الإنسان في مَعيَّة ربه.. قائمًا وقاعدًا، مُقيمًا ومُرتحلًا، خاليًا بنفسه أو مُتداخلا مع الناس، فيكون لسانُ حاله: ( وعَجِلتُ إليك ربي لترضي )!.
والتقوي بالنسبة لهذا الشهر هي بمثابة الدرة من التاج، ولحاء الشجرة من جذعها، والشغاف من القلب، وإنسان العين من حدقتها!.
أكد ذلك المعنى قولُ ربنا سبحانه: ( ياأيها الذين آمنوا كُتبَ عليكم الصيامُ كما كُتبَ على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
فالتقوى، هى ثمرةُ جميع الطاعات والعبادات، ومعناها كما قال الحافظُ بن رجب: أن يجعلَ العبدُ بينه وبين ما يخافه ويحذرُه وقايةً تقيه منه، وهى وصيةُ الله لعباده، فقال سبحانه: (ولقد وصينا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)، كما أنها وصيةُ رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فكان إذا بَعثَ بعثا أوصى مَنْ عليه بتقوى الله فى خاصةِ نفسه، ومَنْ معه من المسلمين.
والمُتأمِلُ يُدرك أن التقوى غايةٌ لا تتم فى هذا الشهر الكريم، ولا فى غيره إلا بوسيلة، وهى العلمُ النافع، والعمل الصالح، وأساسُها أن يعلم العبدُ ما يتّقيه ثم يتّقيه، ومن ثم يُصبحُ لزامًا عليه أن يعرف الواجبات والمستحبات فيفعلها، ويعرفَ المُحرمات والمكروهات فيتجنبها؛ تعظيما لقول الحق سبحانه: (ذلك ومن يُعظِم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
ولما كانت التقوى هى الغايةُ الأسنى من الصوم، كان لزاما لتحقيقها أن نتجنب أمورًا أبعدَ ما تكون عن معناها.. فمن ينامُ طيلةَ يومِه بحُجة أنه صائم، يريدُ تضييع الوقت حتى آذان المغرب، ويغفل عن صلواته، ويُهمل واجباته، نقول له: احذر فقد حُرِمت ثمرة التقوى.
وأشدُّ تضييعًا لمعناها من يمتنع عن الطعام والشراب بحجة الصوم، ويظل عاكفًا آناء الليل، وأطراف النهار على الشات والدردشة ومشاهدة الأفلام الهابطة، التي تسرق العمر!.
كما أنَّ الإسرافَ والتبذيرَ، الذى من مظاهره ملء الموائد بشتى أنواع الطعام والشراب، ضاربين بقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ( حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) عرضَ الحائط، وغصَّ الطرف عمن ألهبَ الجوعُ بطونَهم فبحثوا عن طعامهم فى سلات القمامة، هو تضييعٌ لمعني التقوي.
والتقوي يا سادة، ليس معناها تعطيل مصالح المواطنين فى الهيئات الحكومية عن طريق التزويغ من العمل مبكرًا، أو الحرص على قراءةِ وِرد القرآن اليومى دون الالتفات إلى الطوابير المنتظِرة.
وليس معناها عدمُ إنجاز مصالح الناس إلا بعد تفتيح مُخهم، ودفعهم الرشوة المقنعة أو المُقننة والمسماة زورا (حلاوة أو إكرامية).
وليس معناها ترك (خِتم النسر) يدور على حلِّ شعره بفضاء المصالح الحكومية، ولا يحط على مكتب الموظف المُختص إلا قليلا، فيفوت على كثير من مُنتظريه فرصة الفوز بتوقيعه، وينطلق بعدها صوتُ المسئول الأجش يقول: (فوت علينا بكره ياسيد).
وأخيرًا.. التقوي معناها أن نُشمر عن ساعد الجد لنفعل كلَّ حسن، ونُقلع عن كل قبيح؛ يقينا بأن هناك ربا مطلعا يعلمُ خائنة الأعين وما تُخفي الصدور!.