صبري الموجي يكتب: تربية الطيور.. وشِرا العبد ولا تربيته!
يبدو أنّ انخفاض سعر اللحوم صار سرابا يحسبه الظمآن ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا، فقد أفلتَ زمامُه، ولم يعد يقوي علي كبح جماحه أحد، فعزفَ عن شراء اللحوم الكثيرون من أصحاب الدخول البسيطة، والرواتب الزهيدة خاصة الموظفين في الأرض، حيث إن الأمر كذلك، فقد لجأ الفئام من البشر لحيلة توفير البروتين الحيواني عن طريق تربية الطيور بالمنزل دون أن يستسلموا لعَبَرات مُجافاة لحوم البقر والجاموس، التي تزيد يوميا وباطراد مُستفِز، يقول للذين يتحلب لها ريقهم: موتوا بغيظكم !.
بين عشية وضحاها، أُنشئت عششُ الطيور فوق الأسطح، وبحدائق المنازل، وكنتُ - للأسف - واحدا ممن لجأوا لتربية الطيور برغم عجزي عن تربية نفسي، وقطعا فاقدُ الشيء لا يُعطيه!.
استحضرتُ بَنّاء، بني لي بحديقة المنزل حجرة مساحتها متر ونصف في 4 أمتار، أطلقت بباحتها العشرات من الأفراخ الساسو، والبيضاء، والبط المولر، ولم أفطن - لجهلي بهذه الحرفة، التي لجأتُ إليها رغم أنفي - أن الحجرة ستضيق بالطيور مع ازدياد نموها، وهو ما حدث بالفعل، فيوما بعد يوم، صارت الحجرةُ بالنسبة للدجاج والبط زنزانة تشرئب أعناق الطيور للخلاص منها، والخروج من بين أسوارها!.
فرض ازدحامُ الحجرة علي الطيور سلوكياتٍ شاذة، فتوحش البط، وأصيب بداء الافتراس، وبدلا من أن يأكل العلف، أكل بعضُه بعضا، فَجَرتْ بأرضية الحجرة شلالات الدم، وأصيب الدجاج بهياج، واضطراب نفسي، نشبت بسببهما بين الديوك معارك ضارية، فسنّ كلُّ ديك منقاره علي غريمه، وتوالت نقنقة الدجاج، وصقاع الديوك، كما أصيبت الطيورُ بنزلات برد حادة، فعانت السعال والعطاس، وهو ما تطلب نجدتها بأدوية بيطرية، وأحيانا بشرية، وتكثيفِ قرص المضاد الحيوي، والأملاح والمعادن، وهو ما كان عبئا بجانب أسعار العلف، التي أخذتْ في الازدياد يوما بعد يوم.
مضت دورةُ التربية، وأكذبُ إن قلتُ بسلام، إذ كنتُ أنا وأبنائي كعُمال التراحيل، أو كفلاحي الوسيّة برغم أننا جميعا لا نُميز بين البرسيم، والحشيش، أو الفجل، والجرجير.
أرهقنا تنظيفُ حجرة الطيور مع كل طلعة شمس، وفرشها بالجير؛ لقتل البكتيريا، وتصببتْ جباهنا عرقا أثناء غسل المساقي وملئها، وتزويد العلافات بالعلف.
وحتي نتغلب علي مشكلة زحام الحجرة، قمنا بذبح بعض الطيور قبل وصولها إلي السن والوزن الطبيعيين، فأصيبت البقية الباقية بصدمة عصبية جراء فَقدِ أخواتها، فتوقف نموها، وظل وزنها (مَحلّك سر)، آيسنا منها، وأعملنا فيها سكين الذبح.
ولأنني أكره رؤية الدم - ولولا أن ذبح الطيور لا يُخالف الشرع لاعتبرتُ إراقة دمائها جريمة، ولكنها فطرةُ الله التي فطرَ الناس عليها - فقد صدرتُ صغيري معاذ لمساعدة أمه في تلك المهمة الشاقة، التي استجمع لها قواه، وشدّ عنق البطة من جهة، وشدت أمه من جهة أخري، وهوت علي العنق بسكين ماض، قطع أوداجه الأربعة، ورغما عن هذا، استمرت البطة في الحركة، تقاوم الموت.
صاح معاذ فزعا، فخرجتُ علي صراخه؛ لأري هذا المشهد المروع.. بطة ذبيحة تنشد الحياة لآخر نفس، وترفض دماؤها المهراقة البطش والتنكيل، وتتحرك ذبيحة في اضطراب، فعجبتُ لبطش بني آدم ببعضهم في حروب لا ترحم طفلا ولا امرأة أو مُسنا.
أفسد منظرُ البطة الذبيحة علينا فرحتنا، فعفت نفوسُنا عن تناولها، وأخذنا المواثيق والعهود بألا نعود لهذه التجربة، وعُدنا أدراجنا من جديد للحوم البقر والجاموس حتي وإن غلا ثمنها، ولسان حالنا يقول: ( شِرا العبد ولا تربيته ).