حدود التعاون والصدام بين روسيا والصين بعد اتهامات الناتو
بعد عقود من النظر إلى الصين على أنها تهديد، اتهم الناتو، الأربعاء الماضي، بكين بأنها أصبحت "عامل تمكين حاسم لحرب روسيا ضد أوكرانيا"، وطالبها بوقف شحنات " مكونات الأسلحة" وغيرها من التقنيات الحاسمة لإعادة بناء الجيش الروسي.
وبعد ساعات، هدد الرئيس الأمريكي جو بايدن بكين بأن الحلفاء الأوروبيين مستعدون لخفض استثماراتهم بالصين إذا استمرت في دعمها لروسيا.
وفي بيان لقمته هذا الأسبوع، وصف حلف شمال الأطلسي الصين بأنها "عامل تمكين حاسم" لحرب روسيا ضد أوكرانيا. وفصل البيان إمدادات الصين من المواد ذات الاستخدام المزدوج مثل مكونات الأسلحة والمعدات والمواد الخام التي تعمل كمدخلات في قطاع الدفاع الروسي.
وقالت الصين مرارا إنها لا تقدم أسلحة لروسيا أو أوكرانيا، وإنها "تفرض رقابة صارمة" على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج. وألقت باللوم على الولايات المتحدة وحلفائها في تأجيج الحرب وفرض "عقوبات غير قانونية من جانب واحد".
كما رفضت الصين بشدة يوم الخميس اتهام حلف شمال الأطلسي. وفي أحدث رد، فرضت عقوبات على عدد من الشركات والكيانات العسكرية الأمريكية على خلفية تعاونها مع تايوان.
وتعتبر خطوة الناتو الجديدة وتعليقات بايدن أحدث انتقاد للصين بشأن تعميق علاقة شي-بوتين-- الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فيلاديمير بوتين—بينما يتطلع حلفاء الغرب إلى خنق آلة الحرب الروسية واجبار موسكو على التنازل عن الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها. ويظهر الضغط من حلف شمال الأطلسي إجماعا متزايدا بين الولايات المتحدة وشركائها على احساسهم بالخطر من دعم الصين لروسيا ليس فقط في آسيا، ولكن أيضا من تأثير ذلك على الأمن الأوروبي.
ولا يمكن فصل هذه التطورات الجديدة عن مجريات ما حدث في قمة منظمة شانغهاي للتعاون الأسبوع الماضي، والتي دعا فيها بوتين وشي إلى نظام عالمي "متعدد الأقطاب" لمواجهة الهيمنة الأمريكية، وهي النقطة التي كانت محور تركيز كبير لآلة الاعلام الغربية، بينما كان زعماء المنظمة يعقدون قمتهم في أستانا بكازاخستان. حتى أن وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية اتهمت الصين وروسيا بأنهما تستخدمان المنتدى، الذي كان يركز على معالجة المخاوف الأمنية، كمنصة لعرض طموحاتهما لإعادة تشكيل النظام العالمي.
ويواجه كلا الزعيمين توترات متصاعدة مع الغرب. وأشاد بوتين بمنظمة شنغهاي للتعاون باعتبارها "واحدة من الركائز الأساسية لنظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب".
وقال إن العلاقات بين موسكو وبكين "تشهد أفضل فترة في تاريخهما".
وتثير العلاقة المتطورة بين بكين وموسكو حفيظة الولايات المتحدة وشركائها في الغرب، ويحاول المعسكر الغربي منذ فترة "دق اسفين" بين البلدين بطرق مختلفة. ومن العقوبات إلى تشويه العلاقات إلى الترويج لروايات التنافس والصدام والعداء بين البلدين في منطقة آسيا الوسطى، لم تنجح تلك المحاولات.
ويمكن النظر إلى تحول الناتو في خطابه تجاه الصين على أنه مدفوع جزئيا من قبل الولايات المتحدة بسبب الصعوبات في أوكرانيا. كلما احتدم الصراع، زاد البحث عن مزيد من الأعذار والاتهامات والضغوط لعزل بكين عن موسكو.
وليس هذا بجديد، إذ تكرر سابقا في مناسبات عديدة في شكل عقوبات وضغوط سياسية واقتصادية وصولا إلى الترويج "لعداء محتمل" بين موسكو وبكين في آسيا الوسطى، منطقة "الفناء الخلفي" التي كانت موطئ نفوذ للاتحاد السوفياتي سابقا.
لكن يبدو غائبا عنهم أن الشراكة بين روسيا والصين أكبر من "محور مصالح" أو "تحالف براغماتي". ومن غير المتوقع أن تتكشف في منطقة آسيا الوسطى الخلافات بين موسكو وبكين على نحو ما يرونه. تقليديا، في كل مرة واجهت فيها المنطقة نوعا من الأزمات أو الصدمات، زاد التواصل والانخراط بين روسيا والصين والتفاهم والثقة المتبادلين بين الطرفين وبقية دول المنطقة أيضا.
إن ما يجمع هناك أكثر مما يفرق. جميع الأطراف لديهم مصلحة في مواصلة التعاون والانخراط في كافة الملفات. من الإرهاب ومكافحة "الشرور الثلاثة" (الانفصالية والإرهاب والتطرف) وبناء خطوط السكك الحديدية الجديدة وغيرها من مرافق البنية الأساسية، وتعزيز التجارة والاستثمار، التدريبات العسكرية، تحولت منظمة شنغهاي للتعاون من منصة مهمة إقليمية إلى منصة رائقة عابرة للأقاليم.
وتأسست منظمة شنغهاي للتعاون في عام 2001 وضمت الصين وروسيا مع دول آسيا الوسطى كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان قبل أن تتوسع في السنوات الأخيرة لتشمل باكستان والهند وإيران وبيلاروسيا، إضافة إلى الدول المراقبة وشركاء الحوار وهم تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر.
وبشكل فريد تقريبا بين القوى العظمى، تعرف روسيا والصين آسيا الوسطى بأنها "منطقة جوار مشتركة" حيث يمكنهما التنسيق والتعاون لإدارة النزاعات في نهاية المطاف من خلال الحوار بين شي وبوتين.
والملاحظ أن الأزمات في آسيا الوسطى عززت من توطيد التنسيق الاستراتيجي بين روسيا والصين وليس المنافسة. إنهم يتعاونون، لأنهم يدركون أن هناك مصلحة مشتركة في وجود أنظمة مستقرة في المنطقة لا يكون لها تنسيق يذكر مع الجيوش الغربية أو لا تتعاون معها على الإطلاق.
وقد وضح ذلك في رد الفعل المشترك على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021. فموسكو وبكين متفقتان بشأن أوضاع الأزمات في آسيا الوسطى، من الوضع في أفغانستان إلى احتجاجات كازاخستان وأوكرانيا والعقوبات الغربية. ومثل هذا الاصطفاف يخدم الاستقرار في المنطقة.
نعم، توجد ثمة فوارق متزايدة في القوة بين روسيا والصين تشير إلى إمكانية توسع نفوذ الصين، لكن من الواضح أن هذا لن يكون على حساب روسيا أو يخصم من حضورها بالمنطقة. فموسكو قوة أمنية كبيرة والصين قوة اقتصادية كبيرة. وتعتبر موسكو الصين شريكا قويا، وما تتعرض له من جانب الغرب يدفعها في الوقت نفسه باتجاه بكين والمواقف الصينية. كما أن روسيا تمثل أولوية للصين.
وتزايد حضور بكين في المنطقة، التي استفادت من استثماراتها وتجارتها، يخدم روسيا التي تتعرض لعقوبات غربية. ومن مصلحة البلدين أن تبقى كل منهما قوية. بعد وقف ممر النقل التقليدي الذي يربط الصين بأوروبا عبر روسيا بسبب العقوبات، لم تعترض روسيا على تحرك الصين لإيجاد طرق بديلة عبر وسط آسيا، مثل طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين وغيره.
لقد اكتسبت المنظمة زخما جديدا في السنوات الأخيرة تحت قيادة بكين وموسكو، وينظر لها على أنها منصة تعاون منافسة لمنظمات غربية.
ومن غير المرجح أن تصبح المنطقة نقطة ضعف في الشراكة بين بكين وموسكو. ولا يمكن أن يتوقع أن يتطور إلى صراع.
واقع الشراكة بين روسيا والصين قد يكون أكثر غموضا، من غير الصواب أن توصف بالتعاون فقط أو التنافس فقط أو أنها نوع من التكامل أو التداخل، بل هي مزيج من كل ذلك.
فالصين وروسيا تتعاونان حيث تتداخل مصالحهما وتتنافسان حين لا يوجد بينهما تداخل، وتتداخلان أينما وجد بينهما تنافس. كلا البلدين مهتم بالاستقرار في المنطقة وبتطوير منظمة شنغهاي للتعاون كمنظمة دولية متعددة الأطراف بديلة للنظام الذي يقوده الغرب.
ما يجمع بين روسيا والصين في آسيا الوسطى هو الحاجة إلى إظهار التضامن العام ضد الممارسات الأحادية التي تقودها الولايات المتحدة، وترجمة ذلك إقليميا إلى جهود مشتركة.
وفي هذا الصدد، تضغط بكين على الولايات المتحدة لتحرير الأصول الأفغانية وعلى الدول الأخرى لرفع عقوباتها المفروضة على حكومة طالبان المؤقتة في أفغانستان، وتقدم المساعدات الإنسانية والوعود الاستثمارية في البنية التحتية وتتطلع إلى توسيع مبادرة الحزام والطريق.
وتدعو روسيا باستمرار إلى التأهب والأمن الجماعي بين أعضاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي، كما يتضح من التدريبات الحدودية وتوفير الأسلحة، واستبعاد الولايات المتحدة من الحلول الإقليمية.
وفي الجانب الآخر، تتجه أعين دول المنطقة بشكل متزايد صوب الصين. فرغم ما يعانيه الاقتصاد الصيني من صعوبات إلا أن الصين لديها اقتصاد ديناميكي وتبدو شريكا جذابا، إذ تملك القدرة على مساعدة وخدمة الاستراتيجيات التنموية لدول آسيا الوسطى ومساعيها نحو التحديث والنهضة.
ويمكن أن يخدم الاقتصاد الصيني المتوسع اقتصادات تلك الدول سواء من ناحية تصدير السلع أو جذب الاستثمارات، ناهيك عن اهتمام الصين بسلامة أراضي وسيادة دول آسيا الوسطى.
صحيح لم تتكامل مصالح روسيا والصين تماما في مجالي التنمية الاقتصادية والتجارة. فروسيا لديها اتحادها الاقتصادي الأوراسي، والصين لديها مبادرة الحزام والطريق. وبالنسبة لكلا المشروعين، تعتبر آسيا الوسطى مهمة. وقد أعربت الصين وروسيا عن اهتمامهما بربط مشروعهما، لكن لم يحدث الكثير على الأرض. مقارنة بين ما تقوم به الصين وروسيا، تقدم بكين الكثير لجيرانها في آسيا الوسطى.
وتحت ضغط العقوبات والصراع في أوكرانيا، تقبل روسيا حاليا قوة الصين الاقتصادية وتتعامل مع مبادرة الحزام والطريق من مصلحتها. والآن، يلاحظ بعض المراقبين ثمة تغير في ميزان القوة لصالح الصين في المنطقة. لكن الملاحظ أيضا أن دول المنطقة دعمت المبادرات الأمنية والاقتصادية الإقليمية الروسية والصينية.